دخلت مدونة السير حيز التنفيذ بتاريخ 1 أكتوبر 2010 عملا بالمادة 318 من نفس المدونة...
وبقراءة متأنية لهذه المدونة، يمكن للمهتم أن يلاحظ مدى التعقيدات التيجاءت بها في ما يخص آليات تنفيذ مختلف مقتضياتها، ولاسيما تتبع الإدارةللمخالفين والقيام بعشرات الآلاف
من المراسلات الواجب توجيهها إليهم والسهر على تتبع عشراتالآلاف من القضايا أمام مختلف المحاكم المغربية وانتظار اكتساب الأحكامقوة الشيء المقضي به، وهو أمر لن يتأتى إلا بعد مرور العديد من السنين...
كما أن ترتيب الأقسام والأبواب والفصول والفروع جاء بطريقةعشوائية، ومثال ذلك إقحام المركبات المدرجة في عداد التحف وكذا الحديث عنتجهيز المركبات في مكان غير مناسب ضمن المدونة.
نذكر كذلك إلزامية التحقيق في الحوادث المميتة، الشيء الذيسيعرقل، لا محالة، مكاتب التحقيق، وسيغرقها في العديد من القضايا التيتكون الأمور فيها واضحة ولا تحتاج إلى تحقيق، وكان أولى أن يترك الأمربإجراء التحقيق إلى النيابة العامة، والتي لها وحدها القدرة على إصدارملتمس بإجراء تحقيق إذا تبين لها أن الحادثة ارتكبت في ظروف غامضة وأنالأمر يحتاج إلى المزيد من البحث والتنقيب.
إن المدونة انطلقت، في بدايتها، من عناد شخصي ومن تحدٍّ لكل الفعاليات التي عارضتها.
والمدونة ليست إنتاجا مغربيا (Made in morocco) ولكنه تم نقلها عن جهاتيختلف مجتمعها عن مجتمعنا، وهذه الجهات بلغت من التطور والوعي والتعليم ماتفصلنا عنه عشرات السنين...
فهل يعتقد من أتى بالمدونة أن الزجر من شأنه الحد منالجريمة؟ هذه النظرية أبانت عن فشلها منذ زمن بعيد واتخذت السياساتالجنائية منحى آخر يتجلى في تخفيض العقوبات وإعطاء الأولوية للتقويموالإصلاح...
ولنا ميعاد بعد سنة من الآن لمعرفة آثار المدونة على حوادثالسير، وسيعلم كل من كان عنيدا أن حوادث السير لن تتقلص بل ستقع حوادثأخطر وأبشع من تلك التي وقعت قبل دخول المدونة حيز التطبيق...
سبق لنا أن تطرقنا في إحدى مقالاتنا إلى مشكل حوادث السير،حيث اعتبرنا أن الحد منها يقتضي استشارة أطباء نفسانيين لمعرفة الحالةالنفسية للمغاربة أثناء السياقة، والأسباب والكيفية التي يفقد بها السائقالتركيز في بعض الأجزاء من الثانية ليفقد السيطرة على المقود ويرتكبالحادثة...
السائق المغربي يعاني من العديد من المشاكل الاقتصاديةوالاجتماعية بشكل لا يسمح له بالتركيز طوال المدة التي يكون فيها خلفالمقود...
لسنا هنا بصدد قراءة لكل الجوانب السلبية التي تضمنتها مدونةالسير، وإن ما أشرنا إليه إنما هو مقدمة للحديث عن أحد مظاهر الابتزازالتي جاءت بها المدونة...
من مظاهر الابتزاز التي جاءت بها مدونة السير ما نصت عليه المادة 228 من أنه:
«يجب على العون محرر المحضر، في حالة عدم الأداء الفوري للغرامة التصالحيةوالجزافية وفقا لأحكام هذا القانون، أن يتسلم من المخالف رخصة السياقة أوشهادة تسجيل المركبة، مقابل وصل تحدد الإدارة شكله ومضمونه.
يعتبر الوصل بمثابة إذن للمخالف بسياقة مركبة داخل أجل كاملمدته خمسة عشر (15) يوما أو بمثابة شهادة تسجيل مركبة صالحة لنفس الأجل.ويبتدئ الأجل من اليوم الموالي ليوم تسليم رخصة السياقة أو شهادة تسجيلالمركبة، ما عدا في الحالات التي تستوجب توقيف المركبة المنصوص عليها فيهذا
القانون.
يجب على العون محرر المحضر أنيتسلم من المخالف، وفق الشروط أعلاه، شهادة تسجيل المركبة في حالة ارتكابهأثناء السياقة بصفة مهنية، إحدى المخالفات المشار إليها في 11 إلى 20 وفي25 و30 من المادة 184 وفي 19 إلى 24 وفي 27 إلى 32 من المادة 185 أو فيحالة ارتكاب مخالفة للأحكام المقررة تطبيقا للمواد 46 و47 و48 من هذاالقانون».
لقد كانت المقتضيات السابقة لا تسمح للأعوان بسحب رخصةالسياقة إلا في 12 حالة استثنائية نص عليها الفصل 12 مكرر من ظهير 19يناير
1953.
وقد كان العمل القضائي يتشدد فيإطلاق العنان للأعوان المكلفين بمراقبة السير والجولان في السماح بسحبرخصة السياقة واشترط أن تكون هذه المخالفات مقرونة بحادثة سير كما كانالقانون ينص على ذلك.
أما القانون الحالي فقد فتح الباب على مصراعيه للتعسفوالشطط، وذلك بالسماح للأعوان بسحب رخصة السياقة في كل المخالفات ودوناستثناء.
كما أن أداء الغرامة التصالحية والجزافية فورا وبعين المكانكان أمرا اختياريا، حيث إذا عجز السائق عن الأداء يتم تحرير محضر بمعاينةالمخالفة يحال على القضاء الذي يحكم بغرامة تفوق مبلغ الغرامة التصالحيةوالجزافية.
كما أن الغرامة التصالحية والجزافية لم تكن تطبق إلا في بعضالمخالفات، أما في ظل مدونة السير الجديدة فقد تم اعتبار كل المخالفات(infractions)، بما فيها تلك التي كانت تعتبر جنحا (Délits)، أقول تماعتبارها مخالفات (Contraventions) عملا بالمادة 139 والتي تنص على:
«استثناء من أحكام الفصل 18 من القانون الجنائي، تعتبرالغرامات المنصوص عليها في هذا القانون للمعاقبة على المخالفات لأحكامهولأحكام النصوص الصادرة لتطبيقه، ما عدا الغرامات المحددة في المواد 143و148 و152 وفي المواد من 155 إلى 161 وفي المواد 163 و165 و166 وفي الموادمن 175 إلى 177 ومن 179 إلى 181 وفي الكتابين الثالث والرابع من هذاالقانون، غرامات ضبطية، كيفما كان مبلغها، إذا كانت العقوبة تتمثل فيالغرامة فقط، وذلك على الخصوص، لأجل تطبيق قواعد القانون المتعلق بالمسطرةالجنائية».
وتبعا لذلك، أصبحت كل المخالفات قابلة للمطالبة فيها بأداء الغرامة التصالحية، وأصبحت كلها تؤدي إلى سحب رخصة السياقة...
إن مقتضيات المادة 228 جاءت متناقضة مع المادة 221، هذه الأخيرة تنص على أنه:
«يمكن أداء الغرامات التصالحية والجزافية:
فورا، إلى العون محرر المحضر، داخل أجل مدته خمسة عشر (15) يوما كاملةيبتدئ من اليوم الموالي ليوم ارتكاب المخالفة، لدى كتابات الضبط بمحاكمالمملكة.
غير أنه يمكن للإدارة أن تحدد أماكن أخرى للأداء، من أجل تسهيل تحصيل الغرامة».
وإذا كان هذا الخيار مطروحا للسائق، فلماذا إذا اختار المخالف الأداء داخل15 يوما، تسحب منه رخصة السياقة فورا وفق مقتضيات المادة 228؟
ثم هل من العدل والإنصاف، وهل يعتبر من قبيل احترام الدولةلمبادئ العدل والإنصاف، أن يدخل المواطن (السائق) في متاهات سحب لرخصةالسياقة تم بمدينة العيون والسائق متجه إلى مدينة وجدة فقط من أجل عدمأداء مبلغ 300 درهم أو 700 درهم؟ أين هي قواعد العدالة والإنصاف، وأين نحنمن قاعدة أن الضرر لا يزال بضرر أكبر منه.
إن تطبيق المادة 228 بالشكل المنصوص به عليها إنما هو مجردابتزاز للمواطن (السائق) الذي قد يتعذر عليه أداء مبلغ الغرامة لعدةأسباب...
كما أن مقتضيات المادة 228 تفصح عن حقد كامن في بعض الأنفستتلذذ بالانتقام من السائقين وتولد لديهم الإحساس باللاعدل وبالكراهية ضدمؤسسات
الدولة.
وأخيرا، فإن باب الرشوة قد فتحعلى مصراعيه، حيث إن المسؤولين عن المراقبة كانوا يقنعون بمبلغ رشوة بسيطلعلمهم بأنهم غير قادرين على سحب رخصة السياقة ولكسلهم في تحرير محضرمعاينة المخالفة في حالة عدم الأداء (في حالة الأداء يتم فقط ملء مطبوعمعد لذلك).
أما الآن فإما أن يكون مبلغ الرشوة مبلغا محترما أو الانتقاممن السائق بسحب رخصته للسياقة أو شهادة التسجيل، ليدخل المواطن بذلك فيمتاهات لا نهاية لها...
وإذا كان الأمر هكذا، فإن المحاكم لم يعد بإمكانها النظر فيمخالفات السير بكل درجاتها، بحيث لن يصل إليها أي محضر مخالفة للحكم علىالسائق بالغرامة. وهكذا يصبح اللجوء إلى القضاء غير ممكن على الإطلاقاللهم من مسطرة تعجيزية (مسطرة المنازعة في المخالفة - المادة 230 ومابعدها).
وهكذا، فمن الضروري الحد عاجلا من مقتضيات المادة 228 وجعلأداء الغرامة التصالحية أمرا اختياريا، وفي حالة عدم الأداء تحرير محضربمعاينة المخالفة يحال على القضاء.
كما أنه يجب عاجلا تقرير عدم سحب رخصة السياقة أو شهادةالتسجيل لمجرد عدم أداء مبلغ الغرامة، حيث إنه لا توجد أي صلة بين عدمأداء مبلغ الغرامة وسحب رخصة السياقة.
الحسن البوعيسي
محام بوزان
عن جريدة المساء